دخلت العدالة القانون من باب الفلسفة[1]. ويشير الأستاذ الدكتور/ عبد
الرحمن بدوي إلي أنه: "اختلف المؤرخون من قديم الزمان في بدء تاريخ
الفلسفة، أي في النقطة التي ابتدأ عندها تكوين الفلسفة. فقال أرسطو: أن
الفلسفة لا تبدأ إلا من القرن السادس قبل الميلاد علي يد طاليس الملطى.
وقال ذيوجانس اللائرسي إن أول فلسفة قامت عند الشرقيين والمصريين. فنحن
هنا إذا بإزاء رأيين متعارضين"، ثم ينتهي إلي القول: "أن بدء الفلسفة لا
يمكن أن نضعه في الفكر الشرقي، وإنما يجب أن يكون هذا البدء في القرن
السادس (ق.م) عند اليونانيين. وبهذا نكون قد رجحنا رأي أرسطو علي المحاولات
الحديثة التي قامت من أجل النيل من هذا الرأي ومن أجل عدّ الفكر الشرقي هو
مرجع الفكر الفلسفي"[2].
والحقيقة أن هذه النتيجة –في رأي
الباحث- بعيدة كل البعد عن الحقائق التاريخية الدامغة المؤكدة لتقدم
المصريين القدماء في شتي المجالات ولا يمكن استبعاد الفلسفة من بين هذه
المجالات دون دليل قاطع لسبب بسيط أن الفلسفة هي سبب الرقي والتحضر في
المجتمع، وبالتالي فأن بدء الفلسفة كان عند الفراعنة، وانتقلت منهم إلي
اليونانيين كسائر العلوم التي نقلوها عنهم، ودليل ذلك أن طاليس وهو أحد
الحكماء السبعة المشهورين لدي اليونانيين، ورغم الاختلاف حول أسماء هؤلاء
الحكماء السبع إلا أن هناك أربعة منهم لا خلاف حولهم وهم طاليس من ملطية،
وبتاكوس من ميتيلين، وبياس من بريين، وصولون من أثينا. وربما كان صولون
أشهرهم جميعاً[3]. وتنسب إلي طاليس عدة اكتشافات، وأهمها أنه تنبأ بكسوف
الشمس في عام 585 ق. م، وأنه وضع تقويماً فلكياً يساعد البحارة في اجتيازهم
للبحر، وأنه نقل إلي اليونان المعارف الهندسية المصرية، ووصل إلي طريقة
لقياس بعد السفن في البحر، وأنه استطاع تحويل مجري أحد الأنهار[4].
ويعتقد الباحث أن اشتهار كلا من طاليس وصولون بالحكمة –التي كان يُعلمها
الفراعنة للأطفال منذ الصغر- لهو الدليل القاطع علي انتقال الفلسفة المصرية
لليونانيين كسائر العلوم التي تعلموها في مصر، فالثابت تاريخياً أن "عين
شمس واسمها القديم (أن) كانت مدينة قديمة جداً مقدسة عندهم لأنها كانت
مرصدة علي معبودهم (رع) أي الشمس وكان بها جامعة ولشهرتها سعي إليها كل من
صولون مشرع اليونان وأفلاطون الحكيم وفيثاغورث لتلقي العلوم بها وفي مدة
رمسيس الثالث (أحد ملوك العائلة العشرين) بلغ عدد طلبة العلم بأحد هياكلها
أثني عشر ألف طالب"[5].
ويقسم المؤرخون تاريخ مصر الفرعونية
إلي الدولة القديمة والدولة الوسطي والدولي الحديثة، وفي الدولة القديمة،
وصلت "منف" (منفيس) في أواخر أيام الأسرة الثانية إلي درجة من الرقي أخنت
علي عظمة "طينة" التي ينسب إليها ملوك الأسرتين الأولي والثانية. ولما
انتهت الأسرة الثانية أسس "زوسر" الأسرة الثالثة فكانت أيامه مبدأ عظمة
منف... وقد ساعد "زوسر" علي نجاحه العظيم وزيره المدعو "إمحتب" الذي كان
علي جانب عظيم من الحكمة وطول الباع في فلسفة الدين والسحر والحكم والأمثال
والطب وفن البناء[6].
ويكفي أن نشير للنظام التعليمي عند
الفراعنة ليتضح مدي تقدمهم ورقي حضارتهم وأن هذه الحضارة لا يمكن بأي حال
من الأحوال أن تهمل الفلسفة. وفي تفصيل النظام التعليمي لدي الفراعنة يقول
الأستاذ/ انطوان زكري في كتابه "الأدب والدين عند قدماء المصريين": (كان
التعليم عند قدماء المصريين عاماً. وكان في كل قرية مدرسة لتدريس العلوم
للطالبين بياض النهار. وكان للنساء أيضاً عناية بتربية أبنائهن وتهذيبهم
فقد جاء في أمثال آني أن رجلاً كان يذكر ابنه بعناية أمه به في صغره بقوله:
"كانت أمك تذهب إليك وأنت في بيت النظام لتوصي أساتذتك بك وتتفقد شؤونك في
التعليم والغذاء". وكانت المدارس تدعي عندهم [بيوت النظام]. ولها قوانين
شديدة حتي ورد في ورقة انسطابي البردية "حذار حذار من الكسل أيها الطالب
لئلا تضرب بالعصا ضرباً أليماً" وكانت للمدارس لجان تؤلف كل سنة للامتحانات
العمومية. والفراعنة أنفسهم هم الذين ينتخبون الأكفاء من الناجحين
ليقلدوهم المناصب العالية. وكانت الكفاءة وحدها هي التي تؤهل المرء للوظائف
علي اختلاف أنواعها فلم تكن الوظائف عندهم وراثية. وقد ورد في أمثال آني:
"لا يجوز أن يعين الابن بدلاً من أبيه وكيلاً لخزانة بيت الملك ولا أميناً
لأختام بيت فرعون ولا يورث الكاتب الماهر وظيفته إلي أولاده فيجب عليهم أن
يكتسبوا المعالي بكدهم وينالوا المجد بجدهم واجتهادهم". وكانوا الأساتذة
يحثون الطلبة علي التآلف والتعاضد واغتنام أوقاتهم الثمينة فيقولون لهم
"إذا خرجتم من المدرسة فأذهبوا إلي بيوت أصدقائكم وحيوهم" وكانوا ينصحونهم
بالقناعة والاعتدال والحمية في الأكل ويحضونهم علي التمسك بالآداب والحكم
التي يسمعونها من كبارهم وشيوخهم، ويتفقدون أحوالهم وأطوارهم حتي خارج
المدرسة. وقد عثرنا علي كثير من إرشاداتهم ومواعظهم لتلامذتهم ومنها قولهم:
"لا تضيعوا أوقاتكم سدي ولا تترددوا علي محال الخمور لئلا تفسد أخلاقكم".
وكان التعليم عندهم علي قسمين: علمي وأدبي. وكانت المدارس متنوعة من
ابتدائية وثانوية وعالية ولهم كليات لعلوم النبات والطب والحكمة والفلك
والمساحة والحقوق والإدارة ومنها كلية خنّو الشهيرة التي كان معظم طلابها
من أبناء السراة، وإن كان الدخول فيها مباحاً لكل الطبقات وكان يتخرج منها
أساتذة عظام من أبناء الفلاحين. وبلغ اهتمام الشعب بأمر التعليم حتي أن
الأغنياء كانوا يتكفلون بنفقات أبناء الفقراء تربية وتعليماً ويأوونهم
عندهم ويقومون بجميع شؤونهم من مؤونة ومعونة حتي يتموا دراستهم. ويمكننا أن
نستنتج من ذلك أن التعليم عندهم مع كونه عاماً كان اجبارياً ومجاناً علي
وجه التقريب) [7].
وينبغي أن ننتبه إلي أن الفكر اليوناني
يأخذ في الوقوف علي قدميه منذ حوالي أواخر القرن السابع قبل الميلاد،
ليزدهر ما بين الخامس والرابع علي حين أن الحضارة المصرية، مثلاً، كانت
راسخة العماد قبل ذلك بما يزيد عن الألفي عام بكثير[8].
والخلاصة أن الفلسفة بدأت –في رأي الباحث- من مصر الفرعونية كسائر العلوم
التي كانت لديهم وأبهرت العالم ومازالوا حتي اليوم يكتشفوا في المزيد من
أسرارها. وانتقلت إلي اليونانيين من خلال قدومهم إلي مصر سواء للتعلم أو من
خلال الرحلات البحرية. وازدهرت الفلسفة علي أيدي اليونانيين وانتقلت منهم
للرومان وهذا ما لا يمكن لأحد أن ينكره.
(جزء من بحثي - حول فكرة العدالة - مادة فلسفة القانون دبلوم القانون الخاص)
التسميات
المكتبة القانونية